Thursday, October 09, 2008

قهوة عكاشة

قـهـوة عـكـاشـة

منذ أن انتقلت إلى للسكن فى مدينة السادس من أكتوبر –والتى تحولت إلى محافظة فيما بعد- وأنا أتأخر عن مواعيدى بشكل منتظم. يقول المقربون إنى أتأخر منذ أن عرفونى ولكنى لا أهتم لأنى مقتنع أنى لم أكن أتأخر، كما أن الحكومة مقتنعة تمامًا ومعها شركة المقاولون العرب أنهم يسابقون الزمن فى الانتهاء من أعمال تطوير وتوسيع وصيانة محور الموت الشهير بمحور 26 يوليو. كانوا قد أعلنوا أنهم سينفذون الأعمال فى ثلاثة أشهر ثم وللشكوى لغير الله مذلة افتتح المحور بعد الصيانة بعد حوالى تسعة أشهر وهو غير كامل ومع عيوب فنية شديدة الوضوح. وقبل صيانة المحور كنت أتأخر كذلك لأن الحكومة تسابق الزمن ومعها شركة المقاولون العرب فى الانتهاء من إنشاء الوصلة بين نهاية كوبرى المحور وبين ميدان لبنان لتخفيف الضغط المرورى على الميدان. بالطبع هذه الوصلة القصيرة والتى لا تتجاوز مائتى متر استغرت ما يقرب من العام. اللافتات الصفراء على جانبى المحور تخبرنى أنى لم ألتفت إلى حجم العمال والماكينات والأعمال وأنى مقصر فى الثناء على الحكومة وشركة المقاولون العرب

قبل أن أنتقل للسكن فى أكتوبر كنت أشاهد الإعلانات التى تقول إن المسافة عشرين دقيقة. لم أكن مصدقًا فأنا كثيرًا ما يزورنى مندوبو الإعلانات فى منزلى لإخبارى بأنى فزت فى مسابقة وإنى وبالصلاة على سيدنا محمد –عليه الصلاة والسلام- كسبت دعوة لخمسة أفراد لمسرحية كيمو والفستان الأزرق وأنهم كذلك يريدون عشرين جنيهًا ضمانًا للجدية على أن أسترجعها لما اشوف حلمة ودنى. أتذكر عشرين جنيهًا وعشرين دقيقة ولا أشعر بالتفاؤل.. ثمة عائق بينى وبين العشرين فيما يبدو. لذا كنت أشعر بالدهشة العميقة عندما وصلت من أكتوبر إلى ميدان لبنان فى ساعة ونصف الساعة على الأقل ولم أجد الحسينى فى انتظارى عند موقف أوتوبيس ميدان لبنان كما اتفقنا




يقول المقربون وغير المقربين والعالمون وغير العالمين إن مصطفى الحسينى لا يأتى أبدًا فى موعده. أقول لهم: لا يا جماعة ربنا يكره الظلم. وأنا أعرف أن الحسينى لا يأتى إلا فى مواعيد العمل مع العملاء الغرباء. أما أنا وأصدقاؤه وزملاؤه وأخوته فلا يوجد مانع أن يطلع تلات تيت أهالينا فى انتظاره. امممممم الحسينى يسكن فى هذه الحكاية فى مطار إمبابة ولمن لا يعرف فإن المسافة من بيته وحتى موقف أوتوبيس لبنان أقل من عشرة دقائق

كنت فى الأول أتضايق وأشعر بأنه لا يقدر مجيئى من أكتوبر مقتحمًا سائقى الميكروباظات الذين يقطعون المسافة، ومقتحمًا البقاء متيبسًا لمدة ساعة ونصف فى أربعة كيلو مترات فى المحور الذى تسابق فيه الحكومة الزمن مع شركة المقاولون العرب، بالإضافة للحرارة ولكاسيت الميكروباظ.
أما الآن، لم أعد أكترث. يأتى مصطفى أو لا يأتى. يعمل حادثة ولا بيته هيتهد ولا يولع حتى غير مهم، المهم أن الجو حار ولا بد أن أجد مقهى قريبًا أجلس فيه.
اتصل الحسينى وقال:
- معلش يا معلم.. هتأخر شويه أصل الطريق واقف فى شارع مراد.. أصل الحكومه ومعها شركة المقاولن العرب بيسابقوا الزمن عشان يفتتحوا نفق مراد.ولأن الحسينى سيتأخر حتى لو كان الطرق خاليًا فلا بد أن أبدل المقاهى حتى لا يقتلنى الملل لأن عبد اللطيف أبو هيف (كما يطلق عليه الحسينى) أبدى ملاحظة مهمة وهى أن طول أصابع يدى اليمنى ليس بنفس طول أصابع اليد اليسرى، وأن هذا حدث منذ أن توطدت علاقتى بالحسينى.. امممم ممكن يا عبده. الحسينى عندما يقترب فإنه يتصل بى ليعرف هل أجلس عند مزلقان أرض اللواء أم داخل شارع خطاب أم عند المواسير أم عند عربات الطريق الأبيض

قررت أن أنتظره فى مكان مختلف، فى المهندسين نفسها. الوجه الأول لميدان لبنان. كنا سنذهب إلى مقابلة سيدة أعمال بالقرب من شارع سوريا. أخبرت الحسينى أن موعدنا فى الرابعة وأن موعدى معه فى الثالثة لنتناقش حول بعض التفاصيل قبل أن نذهب إليها. طبعًا كان الموعد الحقيقى فى الخامسة. يقول عبد اللطيف: لماذا تذهب إذن فى موعدك؟ لا أعرف، فقط أخاف أن يعرف أنى أتأخر فيتأخر أكثر تحسبًا لتأخرى

كانت المهندسين قد أضفت صبغتها على المقهى فصار مرحلة انتقالية بين المقهى المعتاد والكافيه أبو مينم تجارج. كانت تلك أول مرة أرى فيها طبق صينى تحت كوب الشاى ومعه سكرية زى الفل وعليه رسوم. وكرد فعل طبيعى ابتسمت فى وجه الجرسون/ القهوجى الذى رد بطبيعية بقلب شفتيه بامتعاض واضح. راودنى شعور تلقائى بالغضب من الحسينى الذى جعلنى فى انتظاره دائمًا عرضة للبشر.

كان التلفزيون على محطة ميلودى أفلام التى تتحدى الملل. كانت تذيع فيلمًا غير معروف وغير مفهوم. يعنى تقدر تقول إنها لم تكن تعرض شيئًا. وصل الفيلم المجهول إلى فاصل أصفر فمددت يدى إلى كوب الشاى. وجدت رجلاً جالسًا جوارى إلى نفس طاولتى. لا أدرى متى جلس ولا كيف لم أنتبه إليه. قال:
- أفلام ولا لها لزوم. حاجه تقرف. تعرف يا شيخ؟ أنا هنا تقريبًا كل يوم. وعم بدوى صاحب القهوة مشغل دايمًا ميلودى. عليهم إعلانات ما يعلم بيها إلا ربنا. وواد أصفر أجارك الله. وعهد الله ما اعرف بيجيبوا الأفلام دى منين. تعرف يا شيخ إن القناه دى بتاعة حفيد عبد الناصر؟.. آه عبد الناصر بتاع التأميم الحلو ده.. شفت الزمن؟ الراجل ده برضه يبقى ابن أشرف مروان اللى رموه من البلكونه وقالوا انتحر. ههههه. انتحر. يعنى كان لازم يروح لندن عشان ينتحر... هييه تعرف يا شيخ لو حد قالك إنه يعرف حاجه يبقى بيضحك عليك.. آه صدقنى، قسمًا بعزة جلال الله يبقى بيضحك عليك.وضعت الكوب بعد الرشفة الثانية فلم أجد الرجل. الله أكبر، صلى على رسول الله. مممم... ولا يهمك يا ابو كيمو. ربنا يسوقك يا حسينى. ربنا يحرقك يا حسينى. نظرت إلى حذائى فناديت ماسح الأحذية الذى يجلس أمام صندوقه عند باب المقهى ومعه كرتونة أحضرها إلى لأضع فوقها قدمى الحافيتين


عندما رفعت رأسى بعد خلع الفردة الثانية رأيت رجلاً يرتدى قميصًا مقلمًا وبنطلونًا لا أعرف لونه حيث إنى مصاب بعمى الألوان. قال بسرعة وهو يحرك محموله بين كفيه بطريقة دائرية وبلهجة أقرب للسرحان:
- مش عايزين يدونى أجازه بدون مرتب. طب ده يرضى مين؟ سمعت الوزير فى العاشرة مساء من يومين وهو بيقول إنك تقدر تعيش بميه وثمانين جنيه فى الشهر؟ آه وربنا قالها. طب إيه رأيك إنى بعت لبريد الأهرام النهارده. لسه راجع م الأهرام حالاً. قلتله إنى هديله بميتين جنيه لمدة أسبوع مش شهر ولو قضوه هسيبله شقتى رغم إنها إيجار قديم. مراتى يا شيخ بتشرب لبن فى الشهر بميه وعشرين جنيه وأنا مواصلاتى للشغل بس بميه وعشرين جنيه. وعلى كده بقبض ميتين واربعين. على قد اللبن والمواصلات هههههه وآخرة ده كله يا شيخ مش عايزين يدونى أجازه، أصل سعيد –مديرى فى الشغل- عارف عيلتى وعارف ان ابن عمتى مسافر ليبيا أول الشهر وهيسسيبلى التاكسى بتاعه. كل شويه ينطلى ويقولى عيب تشتغل على تاكسى، الوضع الاجتماعى، القرد المادى، يا أخى ... أم الوضع الاجتماعى. لا مؤاخذه يا شيخ. بس تفتكر هو ليه مش عايزنى أشتغل على التاكسى؟ عشان الوضع الاجتماعى صحيح؟ أقولك أنا.. عشان هوه ماعندوش حد يسيبله تاكسى. مش عايزنى أقبض أكتر منه. بس على مين. والله لو ما وافق على الأجازه لانقطع عن العمل. ويبقى يلف بقى الوضع الاجتماعى ويـ... ولا بلاش.
رن محموله فأخذه وخرج من المقهى. قمت بلا إرادية وتلفتُ حولى كأنما أتأكد من واقعية المكان أو كأنى أستنجد بأحد أو أُشهد أحدًا أن هناك رجلين جلسا معى منذ قليل. لم أجد أحدًا يهتم فشعرت بالخوف. جلست وقد نظرت إليهم ثانية. وجدت المقهى متوسط المساحة وبه حوالى ثمانى طاولات، كل واحدة بكرسيين قطيفة خضراء مقلمة بأسود أو بنى أو أحمر. لا أحد يجلس مع أحد على الرغم من أن كل الكراسى مشغولة بالزبائن. حالتهم غريبة فنصف الزبائن بالتمام والكمال يتحدث بلا انقطاع والنصف الآخر صامت. كل الذين يتكلمون كانوا مثل الرجل الذى يريد الإجازة، غير مهتمين بأن يسمعهم أحد.




بعد قليل قام واحد تاركًا الآخر يتكلم وجلس على مقعد تركه صاحبه للتو. جلس على المقعد وتكلم مع الرجل الذى كان صامتًا. يا نهار أبيض. الله يحرقك يا حسينى. قمت واضعًا يدى فى جيبى لأحاسب الجرسون على الشاى. سأنتظر مصطفى عند ناصية الشارع القريبة من شارع السودان. سمعت صوت امرأة من خلفى –حيث كنت جالسًا- تنادى الجرسون أن يحضر لها منفضة سجائر. كان صوتها غريبًا ولا أعرف وصفه لكنه نجح فى جذبى للجلوس ثانية. عبد اللطيف يقول لى إنى (حُرمجى) لو رآها لتأكد له. امرأة جميلة بحق. وبمنتهى الرقة طلبت زبادى بلعسل والفواكه فانفجرت بالضحك فقالت:
- أنا لى 3 صاحبات، بنشتغل سوا فى الشهر العقارى. اتجوزت انا الأول وهما قعدوا شويه. واحده جبتلها ابن عمى اللى بيشتغل فى التنميه الإداريه، وبعدها صاحبتى التانيه اتجوزت واحد تعليمه متوسط وخدت أجازه بدون مرتب وسافرت معاه الجزائر. البت شيماء بقى هيا اللى صعبت علينا أوى، بت جميله على فكره يا شيخ ومؤدبه، بس قعدت لغاية 34 سنه من غير جواز. المهم طالما ماليش قرايب قلت أما اعرفها على واحد صاحب جوزى. عزمتها عندى فى البيت عشان تقابله. هيا يا شيخ قعدت عندنا بتاع ربع ساعه والواد وهوه بيعدى الرصيف عشان يدخل العماره قوم أوتوبيس أخضر من الكبار دول هفه، طبعًا جوزى نزل جرى وهو بيصوت والبت أغمى عليها. رحت أجيب حاجه أفوقها ورجعت لقيت شيماء دى خلصانه خالص ومش عايزه تفوق. قول قعدت نص ساعه لغاية ما عرفت انها ماتت. السر الإلهى طلع. بيتهيألى يا شيخ انها ماتت م الزعل. آه، زعلت على حالها، حست إنها نحس أو الدنيا مديالها ضهرها. الله يجازى بقى اللى كان السبب، مش هيورد على جنة. صحيح يا شيخ.. هو لما ربنا يدخلها الجنة ان شاء الله هيجوزها لحد ولا هتفضل لوحدها برضه؟ أنا سمعت إنهم بيتجوزوا الرجاله اللى برضه ماتوا من غير ستات.
أحضر الرجل حذائى، كنت نادمًا على مجيئى هنا وشاعرًا أن الهواء انسحب من المقهى ومن صدرى. رأيتها مثل الشبح وهى تنسحب وتحاسب الرجل على الزبادى وتغادر المكان. الله يخرب بيتكم. من أين أتيتم؟ كان المقهى بالنسبة لى خرم إبرة. ثم جاءنى خاطر منطقى. سيخرج إبراهيم نصر الآن من وراء النصبه، من قميص بدوى الضخم الجالس خلف المارك. سيقول لى جملته الشهيرة: لو عايز تزيع قول زيع. انتظرت نصف دقيقة فلم يخرج. صرخت وأنا جالس:
- اخرج يا ابراهيم.
انتبه إلىّ الجالسون بدهشة فشعرت بقليل من الضيق لأن إبراهيم نصر سيخرج حالاً ويُضحك علىّ الجميع. وقفت عند باب المقهى ظهرى للشارع ووجهى للداخل:
- خلاص يا ابراهيم يا نصر كشفتها.
سمعت الحسينى من خلفى ضاحكًا وواضعًا كفه اليمنى على كتفى:
- يا عم كمال، هو انا كل ما اتأخر عليك ألاقيك بتصرخ، مش عيب؟
التفت إليه متوترًا ومتضايقًا:
- معلش يا مصطفى خش جوه وقول لابراهيم نصر يطلع عشان اتخنقت.
لم يتحرك الحسينى وأعتقد أنه عقدة الذنب تعاظمت داخله لأنه يتركنى فى انتظاره كثيرًا؛ فقال:
- معلش حصل خير.
- يا عم خش قول لابراهيم يطلع.
- انت بتعيط ليه؟
- يا عم ارحمنى، مبعيطش.
كانت دمعات بسيطة انحدرت دون وعى منى ولم أنتبه إليها.
- هما عملولك ايه؟
- مفيش حاجه.. وانا مبعيطش.
استوقف مصطفى الجرسون وقال له بخشونة وعدائية وهو يمسكه من طرف كمه:
- هوه ايه اللى حصل؟
قال الرجل بنفاد صبر وهو يضع مشروبًا أمام رجل يجلس بالقرب من الباب:
- ما تسأله.. عمّال يصرخ باينه عنده حاجه.
ثم التفت إلى ووضع كفه على كتفى كأنه ينصح:- بص يا شيخ من غير زعل... اللى مش قد القعاد على القهاوى مايقعدش





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


""انتظرونى فى تدوينتى القادمة فى 10 نوفمبر""