Friday, February 20, 2009

ثمانية وعشرون عامًا

ثمانية وعشرون عامًا


لم يكن مصطفى –أخى الصغير- قد أتى بعد. فلم يكن غيرى وأحمد –أخى الكبير- فى الشقة الصغيرة، حين كان أبى يذهب إلى وكالة أنباء الشرق الأوسط، وتذهب أمى إلى مدرسة محمد فريد الابتدائية. تشير أمنا إلينا بسبابتها:
- محدش يفتح البوتاجاز
- حاضر
- وماتنزلوش وأنا مش هنا
- حاضر
- ولو حد خبط ماتردوش ولا تفتحوا لحد غريب خالص
- حاضر
- ولو جوعتوا هاتلاقوا الأكل فى فرن البوتاجاز
- أحمد!
- نعم
- خللى بالك من أخوك
- وانت يا محمد ماتتشاقاش وماتتضايقش أخوك
- الساعه 11 هيبدأ اليوم المفتوح اتسلوا بيه لغاية ما آجى

أظن أنه من نافلة القول أن أحكى أن كل تلك التعليمات اليومية كانت تذهب أدراج الرياح عندما كانت أمى تغيب فى أول شارع شمال بعد البيت. أمى أنجبت أحمد ومحمد الذين يقفزان من البلكونة –كنا نسكن بالدور الأرضى- إلى الشارع ونجرى بمصروفينا –عشر قروش لكل واحد- لنركب المرجيحة ونحن ننظر بحسد إلى أيمن –شرشبيل طفولتى- الذى كان يكبرنا وينجح ابن الإيه فى تعويم المركبة وأن يصل إلى واحد وثمانين لفة دون أن يشعر بالدوار. أركب فى المركبة بينما يتحمل أخى مسئوليته كأخ كبير ويتولى مهمة أن يدفعها بقدميه لترتفع لأعلى.
بعدها نهرول إلى بابا عبده للحصول على كيس الكراتيه والمصاصة، كنا نخاف من الاسترسال فى المشى حتى لا نضل الطريق ويعرف أبى أننا خالفنا التعليمات. نعود إذن كما نزلنا ولا ننسى أن ننظف آثار الأقدام من فوق بلاط البلكونة ثم نغسل أقدامنا جيدًا ونجلس فى انتظار أمنا.
أحمد كان لا يسمع كلامى.. يفك كل شىء ويكسرها، وعندما يكتشف أبى هذه الأمور فإنه يضربنا..
- أنا ماليش دعوه.. هو اللى بوظها
طبعًا هذا صوتى الذى يقطع القلب وأنا أتأوه تحت تأثير الحزام الجلدى.. فأحمد وأنا لم يكن لدينا الصبر على انتظار أمنا خمس ساعات بلا مشاكلات. تعود أمى لتجد البيت خرابه من لعب الكرة والكراسى والبلى.

وعندما يعود أبى ولا يجد مصائيب فإنه يقلق جدًا ويشعر أن ثمة غريب قد استبدل ولديه فى لحظة غفلة.. كنت أستغل الموقف وأطلب شلن مكافأة. أطير بها لأحضر شلن آخر من أمى وأطير إلى بابا عبده لأشترى دولسى. أنا فانيليا وشيكولاتة، وأحمد فانيليا ومانجة. كان ذلك عام ستة وثمانين وكنت حين... همممممم.. ستة وثمانون؟؟ بالتأكيد يخوننى الحساب وبمزيد من التفكير بعد السؤال أن الدولسى أبو شلن كان منذ ثلاثة وعشرين عامًا. الشيبسى والصودا وثلاثة أرغفة بشلن والدولسى وطبق العسل الأسود من عند حسن والأهرام من عند السنى والحواوشى من عند عجورة والقهوة بالليل مع عمى مرسى والملبن من عند العينى –صاحب البيت- وترابيزة البينج بونج قدام بيت أم وائل وحضانة ميرامار ومدرسة محمد فريد وأبو تامر وعم حامد وعم فكرى وأبلة فاطمة وأبلة وردة وأبلة فتحية وأستاذ ألفونس وفاتن وزر لانشون مصر والسودان والبطاطس المحمرة والآيس كريم فى كرة بلاستيك نلعب بها الكرة بعد أن نجهز عليها والخرطوم والخشبة والنظارة أم سلسلة عندما كانت تسليتى تليفزيون أبيض بمؤشر بلاستيك يعرض صور المساجد الثلاثة (المكى و الأقصى والنبوى) وكاميرا تضغط على زرها فتعرض لك عددًا من الصور ورانيا... كل هذا كان من ثلاثة وعشرين عامًا..

أكمل عامى الثامن والعشرين وانا أعرف أن المشكلة لا تكمن فى مرور الزمن بقدر ما تتعلق بإحساسى بمرور الزمن. مقابلتى لمجموعة ولدت بعدما غادرت شقتنا الأولى إلى المريوطية يعنى أنها ولدت فى عام تسعة وثمانين جعلنى أشعر أن الجامعة نفسها بعيييييدة. عندما لم يكن هناك محمول ولا إنترنت ولا تيلفون مباشر للمحافظات.. عندما كنت أمشى فى المريوطية صغيرًا ومرعوبًا من الظلام والوحدة.. عندما كان شارع فيصل شبه خاوٍ.. وعندما لم يكن هناك دش.. لم أكمل الثلاثين وأشعر بالعجز حين تفجعنى نظرة الدهشة فى عيون شباب عندهم عشرون عامًا لأنهم لم يروا شيئًا مما أحكى. حتى عمرو دياب –مطربى المفضل- أصبح لديه ثمانية وأربعون عامًا.. تذكرنى أمى بضرورة الزواج من حين لآخر وأنا لا أهضم أى بنت أدخل على صفحتها بالفيس بوك وأجد أنها من مواليد تسعة وثمانين! ولا أهضم فتاة تماثلنى أو تكبرنى وتشعر فى كل لحظة أنها تريد (أى حمار والسلام) الزواج لأن العمر يجرى يا معلم كيمو. ههههههه صباح الفل يا كيمو. أريدك هذا الصباح مختلفًا وكعادتك عاشقًا للحياة كما لم يعشقها أحد.. هذا العشق الذى كلفك خسارة كثيرين يريدون المعيشة لا الحياة.. ثمانية وعشرون عامًا أحياها كما أريد لا كما يريد لى أحد. امممم حتى وأنا أقترب من عام محدد أعرفه جيدًا أشعر أن الأفضل قادم لا محالة وأن الحياة التى أتمناها لم أحقق منها إلا جزءًا يسيرًا.. إذا كبرت ستكون لى ذكريات وكتبًا أكثر وعالمًا آخر أحياه سعيدًا.. الحياة تختلف كثيرًا عن الدنيا. حب الحياة يختلف عن حب الدنيا.. الله العظيم أعطانى ثمانية وعشرين عامًا وأحلامًا لا تتوقف وأصحابًا أوفياء ومشروعات تتحقق، وأعطانى وأعطانى.. بينما لم أعطه شيئًا.. آسف يا رب.. أعطنى المزيد من الصدق والعمر لأعتذر.